الحب الخالد
إن الحب الخالد لا يجدر إلا لخالد، إنه لا يجمل بمن كتب له الفناء و الأفول. إنه حق الحي الذي لا يموت، الذي يفيض الحياة على كل موجود.
إن هذا الحب يجري من صاحبه مجرى الدم، إن وضع في محله و صادف أهله، فإنه شمس لا ينتابها الأفول،و زهرة ناضرة لا يعتريها الذبول ، عليك بهذا الحب السرمدي الذي يبقى و يفنى كل شيء ، الذي يدور عليك بكؤوسه التي تروي ظمأك ، عليك بهذا الحب الذي ساد به الأنبياء و حكموا.
و لكن ليس للمحب الطموح أن يشكو قصوره و يحتقر نفسه، متعللا بسمو المحبوب و علو مكانته و غناه عن العالمين. فما للتراب و رب الأرباب؟
إن المحبوب الحقيقي هو الذي يحب أن يحب ، و يجذب إليه من انجذب " الله يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب".
لا تقل لا سبيل إلى ذلك الملك الجليل، فأنا عبد ذليل، لأن الملك كريم يدعو عبده و يسهل له السبيل.
إنه فيما يبدو للناظر علة علاجها عسير، و صاحبها في تعب و عذاب، و لكنه إذا احتملها و ثابر عليها و صل إلى المعرفة الحقيقية الأبدية.
إن الحب منشؤه انكسار القلب، و جرح الفؤاد، إنه علة لا تشبهها علة، إن علة المحب تختلف عن كل علة. إن الحب اصطرلاب الأسرار الإلهية ، إن هذه العلة و إن كانت في ذات نفسها علة و لكنها شفاء للأسقام النفسانية ، و الأمراض الخلقية ، إن الأمراض التي أعيت الأطباء و تعذر منها الشفاء ، و قطع منها المصلحون الرجاء ، تبرأ و تزول بلفتة من هذا الحب ، فإذا برئ منها السقيم الذي يئس من صحته ، هتف في سرور و طرب : حياك الله أيها الحب المضني ، يا طبيب علتي و سقمي ، يا دواء نخوتي و كبري ، يا طبيبي النطاسي ، يا مداوي الآسي .
هذا لأن الحب شعلته إذا التهبت أحرقت كل ما سواها، فلا كبر و لا خيلاء، و لا جبن و لا خوف و لا حزن و لا حسد و لا بخل و لا عيب من العيوب النفسية. إن موجة الحب تجرف بالحشيش، و تسري في النفس سريان النار في الهشيم . إن الحب شعلة تحرق كل ما سوى المحبوب، إن التوحيد سيف إذا سله صاحبه قطع ما عدا الله. فحياك الله أيها الحب الخالد .
مولانا : جلال الدين الرومي